خطبة الجمعة: “تسليط الدنيا على الإنسان”
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4))[الكهف]
واشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقيه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتي آتاه اليقين.
فاللهم صلِ وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد وعلى آله ومن اتبعه إلي يوم الحق والدين.
ثم أما بعد، اعلموا عباد الله أنكم من الله وإليه راجعون، شاء من شاء وأبى من أبي، فمن كان منكم يرجوا لقاء الله فيعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
أيها الأحبة في الله،
الدنيا زائلة، وحياتنا فيها قصيرة، وهي مجرد اختبار للإنسان، فكل ما فيها من متاع وملذات هو متاع مؤقت. وقد يسلط الله عز وجل الدنيا على بعض عباده من أجل اختبارهم، هل يظلون ثابتين في إيمانهم، أم أنهم يركنون إليها وينغمسون في زينتها. ولهذا فإننا نجد أن تسليط الدنيا على بعض الناس يكون سببًا في ضياعهم وغفلتهم عن الهدف الحقيقي من الحياة.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” (التوبة: 32). هذا يُظهر كيف أن بعض الناس يحاولون تغطية الحقائق وزخارف الدنيا تُعميهم عن نور الله وهدايته.
أيها المسلمون،
لقد ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف أمثلة عديدة على كيفية تسليط الدنيا على بعض البشر، وكيف يمكن لهذا التسلط أن يكون سببًا في ضلالهم. لنذكر بعضًا منها لنتعلم الدروس والعبر:
أولاً: فرعون وفتنته بالدنيا
فرعون هو مثال واضح لشخص سُلِّطت عليه الدنيا، فكان ملكًا عظيمًا، يمتلك القوة والمال والجاه، ولكنه باء بالغواية بسبب غروره وتكبره. ففرعون عندما منحته الدنيا كل شيء، ظن أن لا شيء فوقه، وأنه هو الرب الأعلى. قال تعالى: “فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى” (النازعات: 24). وهذه الغرور جعلته يجحد نعمة الله عليه، بل ويستكبر في الأرض، ويطغى على الناس. ومع ذلك، كانت نهايته الهلاك في البحر، لأن الدنيا سُلطت عليه لتكشف له ضلاله، ولكنها لم تمنحه الهداية.
ثانيًا: قارون، مثال آخر للغرور
قارون كان غنيًا جدًا، يمتلك خزائن المال التي لا تعد ولا تحصى. ولكن بدل أن يشكر الله على نعمه، تسلطت عليه الدنيا وأصبح مغرورًا بها. قال تعالى: “إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُو۟لِي الْقُوَّةِ” (القصص: 76). فبدل أن يستعمل قارون ماله في سبيل الله، استخدمه للفساد والتفاخر على الناس. فكان جزاؤه أن خسف الله به الأرض، ليعلم الناس أن الدنيا لا تدوم لأحد.
ثالثًا: مثال أهل الجنة في سورة الكهف
أهل الجنة في سورة الكهف هم مثال آخر على تسليط الدنيا على الإنسان. كان لديهم بساتين وزروع لا تعد ولا تحصى، وكانوا يعيشون في رخاء ورفاهية، ولكنهم اغتروا بما لديهم. قال تعالى: “وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَٰلِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا” (الكهف: 35). ولكن الله سلط عليهم الدنيا بموت بساتينهم، ليعلمهم أن الدنيا لا تخلد لأحد، وأن الإنسان يجب أن يكون دائمًا في حالة من الشكر والتواضع لله.
رابعًا: ملكة سبأ وأثر الدنيا على قلبها
عندما زار نبي الله سليمان عليه السلام ملكة سبأ، كانت تمتلك ملكًا عظيمًا وجمالًا رائعًا، وكانت مغرمة بزخارف الدنيا. لكن عندما رأى سليمان عليه السلام أن قلبها متعلق بما لديها من متاع، قرر اختبار إيمانها. فعندما رأت عرشها أمامها، قالت: “كأنه هو” (النمل: 42). ثم حاولت سليمان اختبارها بشكل أكبر، فأرسلها إلى قصر مغطى بالزجاج. وعندما رأت الأرضية، ظنّت أنها ماء فرفعت ثيابها، فقال لها سليمان: “إنه قصر ممرد من قوارير” (النمل: 43). عندئذٍ أدركت خطأ تعلقها بالدنيا، واعترفت بخطئها وقالت: “ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلَمتُ مع سليمان لله ربِّ العالمين” (النمل: 44).
هذه القصة توضح كيف يمكن أن يؤدي التعلق بالدنيا إلى الغفلة عن الحقيقة والكبر، ولكن من خلال الاختبار، عادت ملكة سبأ إلى التواضع والإيمان.
أيها المؤمنون،
تسلط الدنيا على الإنسان لا يعني فقط المال والجاه، بل قد يكون في شكل امتحانات أو صعوبات، وقد يكون في شكل نعم لا تُحسن استغلالها. لكن الأهم هو كيف نتصرف مع هذه النعم، فهل نُعرض عنها ونسعى للآخرة، أم نغرق في ملذاتها وننسى مقصدنا الأساسي وهو عبادة الله وحده.
الخطبة الثانية
الحمد لله
الحمد لله الذي أمر ببر الوالدين، وحث على الإحسان إليهما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أيها المسلمون،
لننظر إلى حالنا اليوم. كم من وقت نقضيه في السعي وراء ملذات الدنيا، وكم من أيام تمر علينا ونحن غافلون عن ذكر الله وعن الأعمال الصالحة؟ فلنتذكر أن الدنيا مهما عظمت، فهي فانية، وأن ما عند الله خير وأبقى. وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في حديثه الشريف حيث قال: “من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة“ (رواه الترمذي).
أما بعد، عباد الله:
فالحكمة أن نفهم أن الدنيا زائله والباقي هو الله ولن ينفعك من الدنيا إلا عملك الصالح لذلك يقول الله: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)“[سورة البقرة]
نسأل الله أن يعيننا على العمل الصالح، ويبعد عنا الضلالة في الدنيا ويُخرجنا منها على خير.
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد، كما أمركم الله بقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].